
تختلف المدرسة التقليدية عن المدرسة الحديثة في كون الاخيرة تجاوزت الطابوهات المكبلة لسيرها العادي ولمواهب الطلاب، وتصبوا الى خلق مواطن متفتح ومساهم في الحياة السوسيوقتصادية والسياسية لبلده، وذلك من خلال برامج توقظ وعيه وتجعله قادرا على تحليل الافكار والاحداث باستخدام قدراته الميتامعرفية، بينما تعمل المدرسة في البلدان المتخلفة على استدامة نفس الاوضاع، او اعادة انتاجها بتعبير بيير بورديو، وذلك عبر برامج تخفي الحقائق وتنتصر للموروث والجامد الذي يسعى لخلق اجيال تكتفي بالتقليد الاعمى ومحرومة من ابسط حقوقها ودون وعي منها للقيام بادنى ردة فعل.
وما يطرح لنا مشاكل معرفية عويصة هو التعريفات المتعددة لما يسمى ب “التفكير النقدي” وخصوصا في ارتباطه بمجال التعليم، ويصعب اذن حصره في نطاق معين، بيد ان اهدافه القصوى تبقى واضحة وموحدة نوعا ما، حيث انه يهدف في مجال التعليم الى خلق طالب متحرر من الدوغمائيات ومن الافكار المسبقة، واكتساب ملكة التعلم الذاتي وكذا الانصات الجيد وغير ذلك من المهارات والقدرات، اذن فالتفكير النقدي يكتسب من خلال التعليم.
التفكير النقدي ليس معطى مرة واحدة وليس جمودا بقدر ما هو تحسين مستمر للقدرات العقلية والمعرفية، ويقوى عبر الممارسة وتفاعل مختلف القدرات والمهارات فيما بينها، وليس ممكنا ادعاء امتلاكه كليا وفي كل المجالات بل وجب تطويره وتنميته بشكل مستمر ولا يتوقف.
استقبال الافكار والاخبار امر يجعل من التفكير النقدي فرصة للتمحيص والتقصي الشامل قبل القاء الاحكام، لاننا في زمن كثرت فيه الشائعات والافكار المغرضة والمغلوطة والاخبار الزائفة الكاذبة. وتلعب المدرسة دورا هاما اذا ما اردنا بناء اجيال لا تصدق بسرعة وسذاجة، اجيال تجعل كل شئ محل شك وتحلل ابعاده المختلفة ومصادره.
الفضول يمكننا من طرح تساؤلات متنوعة تنمي انفتاحنا واكتشاف خبايا الامور، ويأتي الطفل الى المدرسة حاملا تساؤلت رغم انها تبدو بسيطة الا انها معقدة تستوجب الحنكة للاجابة عنها ولمساعدة الطفل على الاستمرار في صياغتها في كل الوضعيات، وتفادي قمع تساؤلاته او الاجابة عنها بالمسلمات والافكار المتداولة قبليا.
وجب تمكين التلميذ من تقييم الافكار والمعطيات عبر اكتشاف مصادرها ومقارنتها والتعرف على مختلف ابعادها، ومن هنا يجب ايضا تنمية عمله الذاتي عبر زرع الثقة في نفسه واعطاءه فرص ابداء الرأي والمساهمة في حل المشاكل.
العمل على تنمية التفكير النقدي يتوقف كذلك على التعود على التفريق بين الوقائع الحقة والتأويلات الشخصية او الانحيازات الثقافية، والنظر الى الامور بموضوعية دون اعطائها فهما مرتبطا بما نريد لا بما هو كائن، والانطلاق من هذه الاستراتيجية يمكن من تفادي الوقوع في الانغلاق وتقديس الرأي الخاص. ومن خلال المدرسة يمكن خلق جو النقاش الهادق المؤسس على الاختلاف المحمود الذي لا تفضيل فيه لافكار البعض على البعض الاخر.
هناك مبادئ اخرى للتفكير النقدي كالانصات، بحيث وجب خلق اجيال تتمتع بالانصات الجيد الى الاراء الاخرى وتفادي الانفعال والتشنج تجاهها رغم اختلافها، وكذا السعي الى النمو المعرفي المتواصل لان بحر العلم كبير جدا ولا نأخذ منه الا قطرة واحدة ان اسعفنا الحظ، ولا ننسى ان التواضع شيمة من شيم الانسان المتعلم والمثقف والذي دوما يعترف بنقصه وقصوره ويسعى الى الافضل.
المدرسة فضاء معرفي فعال اذا فهمنا اهدافه الاساسية الرامية الى خلق مواطن منفتح ومنصت وناقد يسعى الى الاسهام في تنمية ذاته ومجتمعه، لا مواطن اناني ومنافق يعيش على التزمت والتطرف او الوثوقية السلبية.

Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.